Overblog
Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
24 mai 2010 1 24 /05 /mai /2010 18:43

 

 (الحرية- الرفاه- الفضيلة- الواجب).

مدخل عام:

     بعد انحسار المسافة التقليدية بين الحقيقة والوهم أو بين المعقول و اللامعقول غدا السؤال ضروريا عمّا إذا كان لا يزال ثمة مسافة بين الأخلاق واللاأخلاق، وهل يمكننا الاستمرار في الحديث عن قيم أخلاقية كونية في زمن اخترقت فيه النسبية كل الآفاق حتى تلك التي كنا نعتقد أنها خارج نطاق الشك والمراجعة أو تلك التي كنا نرى فيها نموذجا أرقى للمعقولية واليقين. ولعلّ ما يعمّق الحاجة إلى التفكير في المسألة الخلقية راهنا هو استحالة عدد كبير منها إلى مجرد عناوين في لافتات تزين واجهات المحلات أو كلمات يتغنى بها البعض لا قواعد توجه الممارسة. إنّ الكائن العاقل الذي ينفرد بالحكم على أفعاله وأفعال غيره من البشر غدا في حيرة من أمره أمام تناقض القيم وانهيار بعضها، حيرة تجعل السؤال يولد فيه من جديد حول أصل الواجب الخلقي، والأسس التي تبنى عليها القيم، وطبيعة العلاقة بين الخير والسعادة.  

1/ الواجب الخلقي:التزام ذاتي أم إلزام اجتماعي؟

    مهما كانت حقيقة القيم الأخلاقية، مجموعة قوانين السلوك الصالحة بصورة مطلقة أو مجموعة قواعد السلوك التي يتبعها قوم ما في زمان ما، فإنّ علاقة الفرد بالأخلاق تفرض السؤال عما إذا كان الشعور بالواجب الخلقي هو من قبيل الالتزام الذاتي أم الإلزام الاجتماعي؟

أ/ الواجب الخلقي بما هو التزام: حتى يكون كذلك لا ينبغي أن تستقى الأخلاق من التجربة الاجتماعية لأن موضوع الأخلاق هو المثل الأعلى لا الواقع و هو ما يجب أن يكون لا ما هو كائن. يقول كانط:"إنّ أسوأ خدمة يمكن أن نقدمها للخلقية هو أن نريد استنباطها من أمثلة أي من الأفعال المحسوسة التي يقوم بها الناس وتتحدد بعاداتهم الاجتماعية" فمصدر الأخلاق في نظر كانط هو العقل بوصفه المشرع الأخلاقي الوحيد وليس سلطة تفرض نفسها على الإنسان من الخارج، لأنّ استقلال الإرادة شرط جوهري بالنسبة للخلقية. ونظرا للصراع بين العقل والحساسية في توجيه الإرادة فإنّ هذه الأخيرة لا تستطيع أن تكون كاملة ولا تتبع القانون الأخلاقي إلاّ مكرهة، لذلك تبدو لها قوانين العقل بمثابة الأوامر. ويميز كانط بين الأوامر المطلقة التي يكون فيها الفعل ضروريا في ذاته والأوامر الشرطية التي يكون فيها الفعل ضروريا لبلوغ غاية معينة ليؤكد أن الفعل الأخلاقي هو ما كان استجابة لأمر مطلق لا شرطي، فلا يكفي أن يكون الفعل مطابقا للقانون الأخلاقي ليعتبر أخلاقيا بل لا يعتبر أخلاقيا إلاّ إذا قام على احترام القانون الأخلاقي لذاته.لذلك يستبعد كانط أخلاقية فعل التاجر الذي لا يغش في بضاعته خوفا من الرقابة الاجتماعية لأن عدم الغش لا يكون فعلا أخلاقيا إلا إذا جاء استجابة لأمر مطلق لا تقيده المصلحة أو الخوف. يقول كانط:"إفعل طبقا للمبدإ الذاتي الذي يجعلك تقدر على أن تريد له في الوقت ذاته أن يصير قانونا كليا".

ب/ الواجب الخلقي بما هو إلزام: تجد هذه الصورة تبريرها في المقاربة السوسيولوجية التي تؤكد على لسان دوركايم:"أنّ الأخلاق تبدأ حيث تبدأ حياة الجماعة إذ أنّ التفاني ونكران الذات لا معنى لهما إلاّ في هذا الإطار" فالمجتمع يمارس على أفراده سلطة متعددة الوجوه ليمتثلوا لقواعده الأخلاقية أو لما يسميه دوركايم بالضمير الجمعي وذلك بواسطة التربية وتأثير الرأي العام والقوانين القضائية...فالمجتمع هو السلطة المتعالية على الأفراد والضامنة لاحترام القيم بوصفها سابقة لوجودهم وباقية بعد زوالهم، لذلك لا يعدو الضمير الفردي أن يكون مجرد صدى للضمير الجمعي لأنّه"إذا ما تحدث ضميرنا كان المجتمع هو المتحدث فينا"على حد تعبيره. فالخير هو ما يراه المجتمع خيرا والشر هو ما يعتبره شرّا. وهذا يعني أن قيمتي الخير والشر ليستا مطلقتين بل نسبيتين تختلفان باختلاف المجتمعات.

2/ الأخلاق بين الخير والشّر:

      ما هي الظروف التي ابتدع فيها الإنسان أحكام القيمة، قيمة الخير وقيمة الشر؟ وما قيمة هذه الأحكام؟ أتراها علامة ضيق الحياة وافتقارها وتقهقرها أم هي-على العكس من ذلك- تعبّر عن امتلاء الحياة وقوّتها وإرادتها وشجاعتها وأملها ومستقبلها؟ عن هذه التساؤلات يجيب نيتشه بأنّ تاريخ الإنسانية قائم على وجود أجناس راقية تتكون من الأسياد والأقوياء وأجناس منحطة تتكون من العبيد والضعفاء. وبموجب هذا التصنيف اعتبر نيتشه أنّ الأقوياء أو الأسياد هم الذين ابتدعوا قيمة الخير عندما استحسنوا أفعالهم واعتبروها طيبة وأنّ الضعفاء أو العبيد هم الذين أنشأوا قيمة الشر عندما اعتبروا أفعال الأقوياء شريرة ومصدرا للاستغلال و الرذيلة. وعلى هذا الأساس يرى نيتشه أن البشرية بحاجة إلى فلسفة قوة أو فلسفة حياة تأخذ بعين الاعتبار هذه اللامساواة الأزلية لمقاومة فلسفات الموت والاحتضار وفي مقدمتها المسيحية الداعية لقمع الغرائز والعدول عن الأنانية والكبرياء والقوة إلى نشر المحبة وإعانة الضعيف، والاشتراكية الداعية إلى إزالة التفاوت الطبقي وتحقيق العدالة والمساواة. فهذه الدعايات في نظر فيلسوف القوة ليس لها من هدف سوى إخماد إرادة القوة عند الأقوياء و التغلب عليها بنشر أخلاق القطيع أو العبيد، ومن ثم لا يمكن للإنسان الأرقى أن يتحقق ولا لإرادة القوة أن تتحرر إلاّ بمقاومة عنيفة لتلك النظريات لأنّ انتصار إرادة القوة لا يتم تلقائيا. لذلك وجب على الأقوياء أن يبنوا كل علاقاتهم على القوة فالزواج مثلا لا ينبغي أن يتأسس على الحب فالحب أكذوبة أشباه الرجال والعلاج لا ينبغي أن يكون مساعدة للمريض على الشفاء بل على الموت. يقول نيتشه:"يجب أن نتجنب كل ضعف عاطفي. وما يحيى المرء إلاّ ليمتلك ويجرح ويعامل بالعنف الضعيف ويضطهده ويستوعبه أو على الأقل أن يستغله...إنّ الاستغلال ليس نتيجة مجتمع فاسد أو بدائي بل ملازم لطبيعة الحياة ذاتها".

هذه القراءة الجينيالوجية للمسألة الخلقية كان لها تأثير واضح في التفكير والممارسة خلال القرن العشرين، فقد شكل مفهوم إرادة القوة أساسا نظريا لبعض تمظهرات الممارسة السياسية(النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا) ولعدة أوجه من الممارسة الفنية(السينما، الرسوم المتحركة، الشعر،...). لكن هذا التأثير لم يحل دون نقد هذه الفلسفة نقدا بلغ في بعض صوره حد اتهام نيتشه بالجنون والزيف والرجعية وهو ما نلمسه في رأي آلان الذي اعتبر فلسفة القوة فلسفة خطيرة تدفع الأبناء إلى التمرد على الآباء وتقضي على كل القيم الجميلة التي توحد البشر مهما كان وضعهم من القوة أو الضعف وهو أيضا ما نقرأه في كتاب "تقويض العقل" لجورج لوكاتش الذي اعتبر فلسفة القوة ذات وظيفة اجتماعية رجعية تتمثل في الدفاع عن الرأسمالية التي تتهددها أخطار الاشتراكية وذلك بالدعوة إلى الهيمنة وتمجيد إرادة القوة متجاهلة ما يشهده الواقع من انحسار للقيم الأرستقراطية أو أخلاق الماضي وتصادم بين القيم البورجوازية أو أخلاق الحاضر وقيم البروليتاريا أو أخلاق المستقبل في اتجاه نحت ملامح الإنسان الشمولي أو المنسجم مع ذاته ومع العالم من حوله(السعيد سعادة حقيقية لا وهمية).   

3/ إشكالية مفهوم السعادة:

   لا يختلف الناس حول الرغبة في السعادة لكنهم لا يتفقون حول ما يجعلهم سعداء، فقد يرى البعض أن الثروة هي السعادة والبعض الآخر يرى أن الرئاسة هي السعادة...غير أنه لا يمكن لأي من هذه التحديدات أن يستوفي حقيقة السعادة لأنّه"من الضروري بالنسبة إلى فكرة السعادة أن يكون هنالك كلّ مطلق، حد أقصى من رغد العيش في حالتي الحاضرة وفي كل شروط حياتي في المستقبل" على حد تعبير كانط فالسعادة في نظره حالة من الرضا التام تغمر النفس أو هي إرضاء كل ميولنا من حيث الشمول يعني التعدد ومن حيث الشدة يعني الدرجة ومن حيث الدوام يعني الاستمرارية. وبما أن الإنسان كائن متناهي فإنّه لا يمكنه أن يكون لنفسه مفهوما محددا لما يبغيه حتى يكون سعيدا.يقول كانط:"مشكلة تحديد أيّ فعل يمكن أن يجلب السعادة لكائن عاقل تحديدا يقينيا هي مشكلة لا حل لها على الإطلاق". لذلك تبقى السعادة في نظره مثل أعلى لا للعقل بل للتخيل وبهذا المعنى يصبح من العبث في نظره أن يعمل الفلاسفة على وصف السبل المؤدية لتحقيق السعادة للبشر على غرار ما ذهب إليه أرسطو عندما جعل من"السعادة نشاطا تقوم به النفس طبقا للفضيلة الأكثر امتيازا وكمالا طوال حياة كاملة" أو ما وصّى به الفارابي طالب السعادة في قوله:"السعادة تؤثر لأجل ذاتها، فهي آثر الخيرات وأعظمها وأكملها. وإذا كانت مرتبة السعادة في الخيرات هذه المرتبة، فقد يلزم من آثر تحصيلها لنفسه أن تكون له السبل والأمور التي بها يمكن الوصول إليها".

4/ إشكالية العلاقة بين السعادة والخير:

 إذا كان المعلمان الأوّل(أرسطو) والثاني(الفارابي)لم يجدا حرجا في وصل السعادة بالخير سواء بوصفها أسمى الخيرات أو الخير الأسمى على الإطلاق فإنّ رسم حدود الإرادة الإنسانية و بيان عجز الإنسان عن التدرج في سلم الخلقية نحو القداسة بما هي قهر كامل للحساسية جعل كانط يرفع مشكل العلاقة بين السعادة والخير إلى ما بعد الحياة الدنيا وذلك من خلال مسلمات العقل العملي الثلاث:

- مسلمة خلودالروح:هي شرط دوام الشخصية بعد الموت و الترقي الأخلاقي نحو الفضيلة بما هي تطابق كامل بين النية الصالحة و القانون الأخلاقي. غير أن هذه المسلمة لا تستوفي شروط تحقيق السعادة بما هي حالة كائن عاقل تجري كل الأمور طيلة حياته وفقا لمبتغاه ولإرادته، لأن الإنسان ليس خالقا للطبيعة فليس في مقدوره أن يجعل الطبيعة منسجمة مع رغباته عندما يتقيد بالقانون الأخلاقي.

- مسلمة وجود الله: وجب من الوجهة الأخلاقية تصور علة مفارقة للمادة تكون قد خلقت الطبيعة بحيث يمكن التوافق بينها وبين تصور الإنسان للقانون الأخلاقي. هذا الخالق هو الله القادر على تحقيق السعادة على قدر الفضيلة. بيد أن الخلقية في نظر كانط لا تتوقف على فكرة السعادة طالما أن الأمر الأخلاقي ليس أمرا شرطيا وأن الأخلاق ليست مذهبا يعلمنا كيف ينبغي أن نكون سعداء، بل كيف ينبغي أن نكون أهلا للسعادة.

- مسلمة الحرية: لا يكون الإنسان أهلا للسعادة إلا إذا كان متخلقا ولا يكون متخلقا إلا إذا كان حرّا، لأن الأمر الأخلاقي لا معنى له إلاّ بالنسبة لكائن مستقل الإرادة أي غير مقيد بالحساسية أو بأية سلطة خارجية.  

رغم قيمة المجاوزة الكانطية لحدود الطرح الفلسفي القديم والوسيط لمشكل علاقة السعادة بالخير فإنه بقي منشدا للأفق الميتافيزيقي وما يحكمه من إطلاقية وذلك من خلال وضع معايير أخلاقية متعالية على المجتمعات والتاريخ وتكريس مفهوم شبحي للسعادة يبعث على اليأس أكثر مما يحمل على الأمل. 

5/ معوّقات السعادة:

     إذا سلمنا بأن حرية الفرد واستقلاليته شرط لسعادته فإنّه يمكننا القول بأنّ سلطة الأهواء والميولات من جهة وسلطة المجتمع من جهة ثانية هي أبرز معوقات السعادة. فسمة الأهواء والميولات أنها لامنطقية ولامتزمنة ولاأخلاقية لذلك فهي لا تعترف بحدود أو فواصل بين ما هو خاص بنا وبين ما هو غريب عنا أو بين الأشياء التي أمرها بيدنا كالرغبة والنفور والأشياء التي ليس لنا عليها سلطان كالممتلكات والسمعة والشرف. يقول إبيكتات:"واذكر أنك إذا اعتقدت الأشياء المستبعدة بطبيعتها حرّة وظننت الأشياء الغريبة عنك خاصة بك كنت مكبّلا حزينا مضطربا" وبما أنّ "الحزن ألم نفساني يعرض لفقد المحبوبات وفوت المطلوبات" على حد تعبير الكندي فإنّ كل من يريد من المشترك أن يكون له خاصة أو من الزائلة أن تكون ثابتة...فقد أراد من الطبع ما ليس في الطبع ومن أراد ما ليس في الطبع أراد ما ليس موجودا ومن أراد ما  ليس موجودا عدم طلبته والعادم طلبته شقي، فتحقيق السعادة يقتضي دفع الأحزان والاحتراس من الشقاء وذلك "بأن تكون إرادتنا ومحبوباتنا ما تهيّأ لنا، ولا نأسى على فائتة ...ولا نتبع أنفسنا بعد انصرافها عنا تأسّفا ولا إشغال فكر". أمّا المجتمع فسمته الأساسية هي العمل على ترويض الأهواء والميولات اللاعقلانية وذلك باحتضان الفرد منذ الولادة ضمن شبكة من العلاقات السلطوية المعقدة التي ترسم له صورة مثالية عن الفرد المنسجم مع محيطه وبيئته حتى لا يرى لنفسه بعد ذلك وجودا إلاّ ضمن حدود المجتمع الذي ينتمي إليه وهي حدود قد تتسع أو تضيق بحسب قاعدة الانتماء(العرق، العقيدة، الطبقة، الأمة، الجهة،...) فتصبح بذلك سعادة الفرد من سعادة المجتمع التي هي في الواقع مجرد أسطورة تطمس التناقضات الاجتماعية باحتضانها لأسطورة المساواة لأن التشخيص الإشهاري للسعادة لا يتجه إلاّ إلى نماذج مماثلة ومنظمة حسب مراتبية اجتماعية وقابلة لإعادة الإنتاج إلى ما لا نهاية خدمة للمصلحة الاقتصادية واستجابة لقوانين السوق، والنتيجة النهائية لكل ذلك هي استيلاب الإنسان، فلا تستغرب بعد ذلك أن تسمع بالسعادة عنوانا لحي سكني ينزف ألما وحزنا أو...   

مواضيع للتّفكير:

موضوع1:

 

موضوع2:

 

 

 

 

 

Partager cet article
Repost0
11 mars 2010 4 11 /03 /mars /2010 22:49

جاء في معجم روبير بأن "الغير هم الآخرون من الناس بوجه عام". كما نجد تحديدا في معجم لالاند الفلسفي جاع فيه مايلي: "الغير هو آخر الأنا، منظورا إليه ليس بوصفه موضوعا، بل بوصفه أنا آخر". ويقول جان بول سارتر: "الغير هو الآخر، الأنا الذي ليس أنا". انطلاقا من هذه التحديدات يمكن أن نلاحظ بأن الغير هو مخالف ومشابه للأنا في نفس الوقت؛ إنه مماثل له في الإنسانية، أي يتمتع مثله بمقومات الشخص من وعي وحرية وكرامة وغير ذلك. لكنه مع ذلك يختلف عنه في الكثير من الخصائص المتعلقة بالجوانب السيكولوجية والاجتماعية والثقافية وغير ذلك. وإذا كان ديكارت قد جعل الأنا منغلقا على ذاته؛ يعيش نوعا من العزلة الأنطلوجية والإيبيستيمية، فإن هيغل أعاد الاعتبار للغير واعتبر وجوده ضروريا بالنسبة لوجود الأنا ووعيه بذاته. انطلاقا من هنا يطرح السؤال التالي: ماذا يشكل وجود الغير بالنسبة لوجود الأنا؟ أو ما الذي يميز وجود الغير بالنسبة لوجود الأنا؟ وإذا كانت معرفة الموضوعات الطبيعية ممكنة بفضل تطور العلوم الدقيقة، فإن معرفة الغير كوعي آخر تطرح العديد من الصعوبات؛ فهل معرفة الغير ممكنة؟ وكيف تتم معرفته بوصفه وعيا؟ غير أن العلاقة بين الأنا والغير لا تنحصر في المستوى المعرفي، بل تتجلى في مستويات عدة؛ عاطفية وأخلاقية واجتماعية...فما هي طبيعة العلاقة التي يجب أن تسود داخل هذه المستويات بين الأنا والغير؟ وعلى ماذا يجب أن تتأسس هذه العلاقة؟

                    І- وجود الغير:  

          *إشكال المحور: ماذا يشكل وجود الغير بالنسبة لوجود الأنا؟ وما مميزات

                                   الوجود مع الغير؟

                              1- موقف مارتن هايدغر:

يحلل هايدغر معنى الوجود مع الآخرين، فيخلص إلى أن الذات تفقد تميزها وهويتها كاختلاف عندما تدخل في حياة مشتركة مع الغير. هكذا يتميز الوجود مع الغير بخاصية التباعد الذي قد يعني غياب تفاهم وتعاطف بين الأنا والغير.فالأنا في علاقته مع الغير يوجد تحت قبضته وسيطرته، بحيث يقوم هذا الأخير بإفراغ الأنا من إمكانياته ومميزاته الفردية ويجعله تابعا له.

إن الغير يمارس على "الموجود هنا" هيمنة خفية، خصوصا وأن مفهوم الغير غير محدد بدقة بحيث أن الذات هي الأخرى جزء منه، وبانتمائها له تزيد من هيمنته وسلطته عليها. ويتجلى هذا الانتماء في وجود روابط عرفية وقانونية مشتركة بين الأنا والغير، وهي التي يستثمرها هذا الأخير من أجل بسط هيمنته على الذات وإحكام قبضته عليها. ويؤكد هايدغر على خاصية التشابه أو اللاتمييز التي توجد بين الأنا والغير، بحيث تذوب الذات في الغير وتفقد تميزها وتفردها الخاص. هكذا يعمل الآخرون على خلق ذوات متشابهة، ويساهمون في اختفاء هوية الفرد وذوبانه في حياة الجماعة.

                              2- موقف جان بول سارتر:

يرى سارتر أن وجود الغير ضروري من أجل وجود الأنا ومعرفته لذاته، وذلك واضح في قوله: "الغير هو الوسيط الضروري بين الأنا وذاته". من هنا فالغير هو عنصر مكون للأنا ولا غنى له عنه في وجوده. غير أن العلاقة الموجودة بينهما هي علاقة تشييئية، خارجية وانفصالية ينعدم فيها التواصل مادام يعامل بعضهما البعض كشيء وليس كأنا آخر. هكذا فالتعامل مع الغير كموضوع مثله مثل الموضوعات والأشياء يؤدي إلى إفراغه من مقومات الوعي والحرية والإرادة. ويقدم سارتر هنا مثال النظرة المتبادلة بين الأنا والغير؛ فحين يكون إنسان ما وحده يتصرف بعفوية وحرية، وما إن ينتبه إلى أن أحدا آخر يراقبه وينظر إليه حتى تتجمد حركاته وأفعاله وتفقد عفويتها وتلقائيتها. هكذا يصبح الغير جحيما، وهو ما تعبر عنه قولة سارتر الشهيرة:"الجحيم هم الآخرون".

إن نظرة الغير إلي تشلني من إمكانياتي ومقوماتي كأنا، فتعمل على تجميد حركاتي وتسلبني إرادتي وحريتي. إن نظرة الغير إلي تقلقني لأنها مصحوبة بتقديرات لا يمكن معرفتها، خصوصا التقديرات المرتبطة بأحكام القيمة.

هكذا يتحدد وجود الغير مع الأنا من خلال عمليات الصراع والتشييء والاستلاب. لكن مع ذالك يعتبر سارتر أن وجود الغير شرط ضروري لوجود الأنا و وعيه بذاته بوصفه ذاتا حرة ومتعالية.  

                        ІІ- معرفة الغير: 

         *إشكال المحور: هل معرفة الغير ممكنة؟ وكيف يتم إدراك الغير ومعرفته

                                 بوصفه وعيا؟ 

                            

                             1- موقف ماكس شيلر:

يرى ماكس شيلر أن معرفة الغير ممكنة، وأنها معرفة تتم من خلال الإدراك الكلي الذي يجمع بين إدراك المظاهر الجسمية الخارجية وإدراك الحالات النفسية والفكرية الداخلية.هكذا فمعرفة الغير لا تتم من خلال تقسيمه إلى ظاهر وباطن، إلى جسم وروح؛ بحيث أن الأول يدرك خارجيا، والثانية تدرك داخليا، إن معرفة بهذا الشكل غير ممكنة لأن الغير كلا لا يقبل القسمة، ومعرفته لا تتم إلا بوصفه كذلك.

من هنا يرى شيلر أنه لا يمكن تجزيء ظاهرة التعبير لدى الإنسان إلى وحدات صغرى لإعادة تركيبها لاحقا، بل يجب إدراكها كوحدة غير قابلة للقسمة إلى أجزاء. فمعرفة الغير لا تتم من خلال الملاحظة والاستقراء العلميين، لأن نمط معرفة الغير كأنا آخر غير مماثلة لنمط المعرفة المتعلقة بالظواهر الطبيعية، بل إنها معرفة تتم من خلال التعاطف معه، والنفوذ إلى أعماقه من خلال الترابط الموجود بين تعبيراته الجسدية ومشاعره الباطنية؛ فحقيقة الغير تبدو مجسدة فيه كما يبدو ويتجلى للأنا، حركات التعبير الجسدية لديه حاملة لمعناها ودلالاتها مباشرة كما تظهر؛ الباطن يتجلى عبر الظاهر ولا انفصال بينهما.

                             2- موقف غاستون بيرجي:

يجسد غاستون بيرجي موقفا يرى من خلاله أن معرفة الغير غير ممكنة، لأن بينه وبين الأنا جدارا سميكا لا يمكن تجاوزه. هكذا فتجربة الأنا الذاتية معزولة وغير قابلة أن تدرك من طرف الغير. فالأنا يعيش تجربة حميمية مع الذات تحول دون تحقيق أي تواصل بينه وبين الغير. فلا يمكن للآخرين اختراق وعيي، كما لايمكنني نقل تجربتي الداخلية لهم حتى ولو تمنيت ذلك، لأنني أشعر بالعزلة وأعيش في قلعة منيعة يستعصى على الغير اقتحامها. وهذه العزلة متبادلة بين الأنا والغير؛ فمثلما أن أبواب عالمي موصدة أمامه، فكذلك أبواب عالمه موصدة أمامي. ويتبين هذا من خلال تجربة الألم مثلا؛ فعندما يتألم الغير ويبكي أواسيه وأشاطره المعاناة، غير أنني لا يمكنني أبدا أن أعيش بنفس الكيفية تجربة بكائه الذاتية، لأنها تجربة شخصية خاصة به وحده دون غيره من الناس.

 هكذا فبالرغم من سعي الإنسان الدؤوب نحو تحقيق التواصل مع الغير، كحاجة ملحة داخله، فإن الغير يظل سجينا في آلامه ومنعزلا في ذاته ووحيدا في موته.

                          ІІ- العلاقة مع الغير:

           * إشكال المحور: ماهي الرهانات التي تنشأ عن علاقة الأنا بالغير؟ وعلى

                                   ماذا تتأسس هذه العلاقة؟

                              1- موقف إيمانويل كانط:  

يؤسس كانط العلاقة بين الأنا والغير على مبادئ أخلاقية وعقلية كونية. ويتجلى ذلك من خلال حديثه عن الصداقة باعتبارها علاقة تقوم على مشاعر الحب والاحترام المتبادلة بين شخصين. وغاية الصداقة، في صورتها المثلى، هي غاية أخلاقية طيبة، تتمثل في تحقيق الخير للصديقين معا. وقد اعتبر كانط الصداقة واجبا عقليا يجب على الإنسان السعي نحو تحقيقه، وإن كان يتعذر تحقيقها في صورتها المثلى على أرض الواقع. كما تتطلب العلاقة مع الغير مراعاة المساواة بين عناصر الواجب الأخلاقي؛ بين مشاعر الحب من جهة، باعتبارها قوة جذب وتجاذب بين الصديقين، ومشاعر الاحترام من جهة أخرى، باعتبارها قوة دفع وتباعد بينهما.

لذلك يجب أن تكون مشاعر الصداقة متبادلة بين الصديقين، ومبنية على أساس أخلاقي خالص، وليس على أي منافع آنية ومباشرة.

                          2- موقف أوغست كونت:

إذا كان كانط قد أسس العلاقة بين الأنا والغير على أسس نظرية، مثالية وميتافيزيقية تنبني على ما ينبغي أن يكون وليس على ما هو كائن، فإن أوغست كونت على العكس من ذلك بنى أسس هذه العلاقة على استقراءات واقعية تترصد ما يحدث على مستوى الواقع الاجتماعي الفعلي. هكذا اعتبر كونت أن هناك واقعة يتعذر تجاوزها، وهي أن الإنسان يحيى بفضل الغير؛ بحيث لا يمكن للفرد مهما أوتي من قوة ومهارة أن يرد ولو جزءا بسيطا للإنسانية مقابل ما تلقاه منها. ويترتب عن هذه الواقعة أنه يجب على الإنسان أن يحيى من أجل الغير، عن طريق نكران الذات والتضحية من أجل الآخرين، من أجل ترسيخ قيم التعاطف والتضامن سعيا وراء تطوير الوجود البشري.

هكذا تعمل الغيرية على تهذيب الغريزة البشرية وتسييجها؛ فتطهر الفرد من أنانيته الهمجية وتكبح ميولاته المصلحية الضيقة، كما تعمل هذه الغيرية على الارتقاء بالأخلاق الإنسانية إلى مستوى من الفهم يتجاوز كل المقاربات اللاهوتية والميتافيزيقية.

Partager cet article
Repost0